في البدء، كانت الكلاب. لم تكن مجرد كائنات تابعة، بل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الحيوي لكوكب الأرض. عاشت في تناغم مدهش مع الطبيعة، محكومة بغريزة البقاء والتوازن.
كانت أعدادها مناسبة، لا تزيد فتهدد الموارد، ولا تنقص فتختل السلسلة الغذائية. كانت الطبيعة، بقدراتها اللامحدودة، بمثابة الأم الحكيمة التي تضمن هذا التوازن. كانت الكلاب تفترس لتأكل وتنمو، وتفترسها كائنات أخرى لتبقى دورة الحياة مستمرة.
في هذا العصر الذهبي، كانت الكلاب تعرف مكانها، وكانت الطبيعة تحتضنها كأحد أبنائها. كانت الغابات موطنًا لها، والأنهار مصدرًا لحياتها، وكانت السماء سقفًا لأحلامها.
مع نشوء المدنية، بدأت علاقة جديدة تتشكل بين الكلاب والبشر. لم تعد العلاقة صراعًا للبقاء، بل أصبحت نوعًا من الاتفاق غير المكتوب بالتعايش. كان البشر يوسعون مدنهم وقراهم، والكلاب، التي كانت في السابق جزءًا من البرية، وجدت لنفسها دورًا جديدًا.
أصبحت الكلاب تحرس بيوت البشر وتطرد الآفات الصغيرة مثل الجرذان والأفاعي التي قد تهدد حياتهم. كما كانت تطارد الذئاب وغيرها من الحيوانات المفترسة بعيدًا عن المستوطنات البشرية، لتصبح بذلك حماة غير رسميين.
في المقابل، سمح لهم البشر بالعيش في محيطهم، وقدموا لهم بقايا من طعامهم أو ما تجود به عليهم نفوسهم، لتصبح هذه العلاقة رمزًا للتعايش بين عالمين مختلفين.
ومع مرور الزمن، بدأت خيوط هذا الاتفاق غير المكتوب بالتمزق. فمع تطور المدنية، اختفى الأعداء الطبيعيون للكلاب من المشهد، وتطورت وسائل الأمان لدى البشر. أصبحت الكلاب عبئًا في نظرهم بدلًا من كونها حامية. تحولت أعداد كبيرة منها إلى كلاب ضالة، تجوب الشوارع بحثًا عن أي شيء يسد جوعها.
لم تعد الطبيعة الأم تتحكم في أعدادها، ولا البشر يكترثون بذلك، فاستمرت في التكاثر بلا حساب حتى أصبحت أعدادها هائلة. يمكن رؤية مجموعات منها تجوب الشوارع ليلًا، تتعارك فيما بينها على مناطق النفوذ والسلطة. وفي أحيان كثيرة، لم يكن الأمر يخلو من هجماتها على البشر. فطفل يسير وحيدًا قد يتعرض للعقر، أو امرأة عائدة ليلًا من الخارج قد تجد نفسها محاصرة، مما يجبرهم على اللجوء إلى المستشفيات وأخذ جرعات السعار الموصوفة.
أصبح التعايش القديم ذكرى بعيدة، وبدأ عصر جديد من الصراع بين الكلاب والبشر يلوح في الأفق.
انتبه البشر أخيرًا إلى المشكلة. لم تعد حوادث العقر مجرد قصص فردية، بل أصبحت مادة للتداول على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتم تداول صور الكلاب الضالة في الشوارع، وأخبار العقر من حين لآخر.
بدأ الجدل يحتدم حول كيفية التعامل مع هذه الكائنات. انقسمت الآراء إلى معسكرين: الأول طالب بـقتل الكلاب، مُعتبرًا ذلك الحل الوحيد للقضاء على الخطر المتنامي. لكن هذا الرأي قوبل باعتراض شديد من مجموعة أخرى، خشية أن يؤدي ذلك إلى زيادة أعداد الأعداء الطبيعيين للبشر، مثل الذئاب والثعالب، الذين أصبحوا يخشون الكلاب ويظلون بعيدًا.
المعسكر الثاني رأى أن الأمر لا يستدعي كل هذا القلق، وأن الكلاب مثل البشر لها حق الحياة، ودعا إلى تركها على حالها. بعد نقاشات طويلة ومحتدمة، توصل البشر إلى حل وسط بدا عادلًا للجميع، وهو تعقيم الكلاب وتطعيمها. كان الهدف هو السيطرة على أعدادها المتزايدة، مع الحفاظ على حياتها، وفي نفس الوقت حماية البشر من الأمراض التي قد تنقلها.
توجه البشر بالحل الوسط إلى الجهات المختصة، التي رحبت بالفكرة كثيرًا. وفي كل بلاد العالم، أعلنت هذه الجهات عن شن حملات واسعة النطاق لـتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة.
كانت الحملات لا تعرف هوادة، وهدفها المعلن هو علاج مشكلة زيادة أعداد الكلاب والحفاظ على صحة الجميع. تناقل الناس صورًا وتسجيلات تؤكد قيام هذه الحملات، حيث تُظهر فرقًا من الأطباء البيطريين والمتطوعين وهم يمسكون بالكلاب الضالة ويعملون على تطعيمها وتعقيمها، في صورة تبدو للوهلة الأولى رمزًا للرحمة والتعايش الجديد.
على الرغم من كل الإعلانات الرسمية والصور المتداولة، ظل عدد الكلاب الضالة في تزايد، حتى إنه فاق عدد البشر أنفسهم. لم تكن الحكومات جادة حقًا في تنفيذ حملات التعقيم والتطعيم، بل كانت في أغلبها مجرد "شو إعلامي" لتهدئة الرأي العام الغاضب. وحتى عندما قامت بعض الجهات بحملات جادة، كانت الأدوية المستخدمة إما مغشوشة أو منتهية الصلاحية، مما جعل كل الجهود تذهب سُدى.
وفي ظل هذا الفشل، ظهرت جماعات سرية من كارهي البشر، وجدت في هذا الكائن البسيط أداة مثالية لتحقيق أهدافها الشريرة. لقد اكتشفوا أن الكلاب يمكن التحكم بها عن بعد من خلال الموجات الفوق مغناطيسية. تحولت الكلاب من مجرد كائنات ضالة تبحث عن الطعام إلى جيش سري، يُوجَّه عن بعد، لتبدأ مرحلة جديدة وأكثر خطورة في تاريخ العلاقة بين الكلاب والبشر .
لم يفطن البشر إلى أن مؤامرة تُحاك في الظلام. كل من تحدث عن سلوكيات غريبة للكلاب الضالة ووصفها بالهجمات المنظمة، قوبل بالاستهزاء والإنكار. لقد وُصفوا بالجنون أو بالخوف المبالغ فيه. حتى جاءت "ساعة الصفر".
في ليلة واحدة، هاجمت الكلاب البشر بشكل لم يسبق له مثيل. لم تكن هجمات عشوائية، بل كانت منظمة وموجهة. انقضّت المجموعات على المدن والقرى، مُنهيةً الوجود البشري على الكوكب في وقت قصير. لم تنجُ إلا القلة القليلة .
وبعد أن أتمّت الكلاب مهمتها، انتقلت إلى الهدف التالي: أولئك الذين ظنوا أنهم يتحكمون بها من خلال الموجات الفوق مغناطيسية. لقد قضت عليهم هم أيضًا، مُعلنةً بذلك تحررها الكامل .
وهكذا، انتهى عصر البشر وبدأ عصر الكلاب. أصبح الكوكب تحت سيطرة هذه الكائنات التي، بعد أن كانت جزءًا من الطبيعة، ثم حامية للبشر، ثم ضالة، أصبحت أخيرًا سيدة العالم.
في البدء كانت الكلاب، عاشت في تناغم مع الطبيعة. ثم جاء البشر، فأفسدوا ذلك التوازن. واليوم، وبعد أن عادت الكلاب للسيطرة على الكوكب، لم تكرر أخطاء البشر. لقد عادت إلى الطبيعة الأم، واستعادت غريزة التوازن التي كانت لديها. أصبحت المدن المهجورة موطنًا جديدًا لها، ولكنها لم تعد تبني أسوارًا أو تسن قوانين. لقد عادت إلى التناغم، وأصبحت جزءًا من الطبيعة مرة أخرى، مُعلنةً بداية عصر جديد من السلام، حيث الكوكب يعيش مرة أخرى في سلام مع نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق