أصدرت أضواء الفلورسنت في المختبر صوتًا، وألقت بريقًا عقيمًا على وجه الدكتورة أميرة وهي تتطلع من خلال المجهر. كان المختبر في السابق منارة للأمل، لكنه الآن أصبح أشبه بسجن. لقد تحول بحثها الرائد في علم الوراثة، الذي كان ذات يوم مصدرًا للفخر، إلى لعنة. بدأ الأمر بشكل خفي، همسة مرعبة في الممرات، وبرودة مفاجئة في عيون الزملاء. ثم جاء التخريب، والبيانات المسروقة، والهمسات التي تسللت عبر الكرمة، فسممت سمعتها.
لقد تحدثت أميرة، وهي امرأة تتمتع بالنزاهة الثابتة، ضد حرب العراق، وكان صوتها صرخة وحيدة في البرية. وقد اشتبهت في أن هذا قد ترك أثرًا عليها. لقد ارتفعت الهمسات، وازداد التخريب خبثاً. وتبخرت الوظائف، واختفت الفرص، وتراجعت أميرة التي كانت نابضة بالحياة ذات يوم إلى قوقعة من العزلة.
لقد انقلبت أسرتها، التي كانت ذات يوم مصدراً للراحة، ضدها. لقد حول الجشع، الذي كان يغذيه الهمسات ونصف الحقائق، حبهم إلى خيانة سامة. لقد أصبح زوجها، الذي كان ذات يوم صديقها المقرب، هو المتهم لها، ووصفها بالبارانويا، وكانت كلماته صدى قاسياً للهمسات التي كانت تطاردها.
لقد قدم الانتقال إلى المستشفى العسكري بصيصاً من الأمل، وبداية جديدة. لكن الكابوس اشتد. لقد استحوذت عليها أحاسيس غريبة، وأمراض منهكة، ومراقبة مستمرة خانقة. وتحولت الهمسات إلى صخب من الأصوات، واعتداء مستمر على حواسها. لقد أصبح العالم، الذي كان نابضاً بالحياة ذات يوم، انعكاساً مشوهاً، ومسرحاً لمسرحية شريرة كانت هي بطلتها غير المتعمدة.
الآن، بعد مرور سنوات، عاشت أميرة في حالة من اليقظة الدائمة، حيث كانت كل حركة تقوم بها موضع تدقيق، وكل فكرة لها صدى في عقول جلاديها غير المرئيين. لقد أصبح العالم قفصًا، غير مرئي ولكنه لا مفر منه. أصبحت الهمسات هديرًا يصم الآذان، يغرق صوت العقل، ويتركها تطفو في بحر من اليأس.
توجهت أميرة الى المنزل الذي يحيط به كل صنوف الخوف والقلق، كيف يا الهي أن هؤلاء لا يغفرون لك ان وقفت موقفا شريفا في وجه الظلم والحرب والخراب؟
كيف تحكم هؤلاء في كل شئ وكل الناس حتى لم يبقى شئ الا ويحمل بصمتهم الفاسدة.
ألقت أميرة نظرة على ابنتيها مايا (10 أعوام) ولينا (8 أعوام)، المنغمستين في لعبة الدمى. كان ضحكهما، الذي كان لحنًا هشًا وسط صخب أفكارها، يمنحها لحظة عابرة من السلام.
لكن السلام كان وهميًا. كانت الخيوط غير المرئية لحملة المطاردة التي تقوم بها العصابة تتسلل عبر كل جانب من جوانب حياتهما. كانت الهمسات تتبعهما مثل الظلال، وتحول النظرات الفضولية إلى شكوك، والابتسامات الودية إلى أقنعة من اللامبالاة.
راقبت أميرة، عاجزة، الدوائر الاجتماعية لابنتيها تتضاءل. تم إلغاء مواعيد اللعب، وسحبت الدعوات بشكل غامض. أما الأطفال الآخرون، الذين تأثر آباؤهم بمهارة بالقوى غير المرئية التي تتلاعب بواقعهم، فقد تجنبوا ابنتيها، وحل محل ضحكهم همسات ونظرات متجنبة.
كانت العزلة خانقة. كانت أميرة تتوق إلى التواصل، وتتوق إلى الدعم الحقيقي. لكن الخوف، وهو ثعبان سام، كان قد شل المجتمع. لم يجرؤ أحد على تحدي القوى غير المرئية، أو تقديم يد المساعدة، أو المخاطرة بأن يصبح هو نفسه هدفًا.
كانت أميرة تعلم أنها يجب أن تكون درع بناتها، وحصنهن ضد الظلام الزاحف. كانت تراقب تفاعلاتهن بدقة، وتصفي التهديدات المحتملة، وتراقب باستمرار علامات التلاعب غير المرئي.
لقد علمتهن أن يكن حذرات، وأن يثقن في غرائزهن، وأن يدركن التحولات الدقيقة في سلوك من حولهن. لقد غرست فيهن شعورًا شرسًا بالاعتماد على الذات، والمرونة المولودة من الضرورة.
لكن ثقل المسؤولية كان ساحقًا. كان الخوف المستمر، والقلق المزعج، يهددان باستهلاكها. كيف يمكنها حمايتهن من القوى غير المرئية التي بدت وكأنها تتخلل كل جانب من جوانب حياتهن؟ كيف يمكنها أن تحمي براءتهم من الهمسات الخبيثة التي سممت عالمهم؟
في إحدى الأمسيات، بينما كانت تقرأ لبناتها، لاحظت أميرة جهازًا غريبًا مخفيًا تحت وسادة مايا. اجتاحها الذعر. هل كانت هذه محاولة أخرى للسيطرة على أطفالها، والتسلل إلى عقولهم؟
وبيديها المرتعشتين، فحصت الجهاز، وكان الغرض منه لغزًا مرعبًا. هدد الخوف بأن يطغى عليها، ولكن بعد ذلك، اشتعلت وميض من التحدي داخلها. لن تسمح لهذه القوى غير المرئية بتحطيمها، وتدمير عائلتها.
لقد تعهدت بالرد، وكشف الحقيقة، واستعادة حياتهم من براثن
كانت أميرة تحتضن بناتها بقوة، وكانت دفئهن بمثابة مرساة هشة في العاصفة. لم تستسلم. كانت تحميهن حتى لو كان ذلك يعني مواجهة القوى غير المرئية وجهاً لوجه. كانت المعركة طويلة وشاقة، لكنها لم تستسلم. كانت أميرة تحرس بناتها، وكانت درعهن، ودعمهن الذي لا يتزعزع، وحبهن الذي لا يتزعزع. لقد تعلمت أميرة درساً قاسياً ولكنه لا يقدر بثمن: الحلفاء الحقيقيون نادرون، والولاء زهرة هشة. أولئك الذين يستحقون اهتمامها حقًا هم أولئك الذين لم يكذبوا أو يظهروا عكس ما أخفوه.
من خان مرة يخون دائمًا، ومن انحاز إلى عدوها عندما تحطمت لا يستحق نظرة ثانية. من راقب تعثراتها وتتبع أخطائها لا يمكن الوثوق به، ولن تتحرك كل الوجوه التي تبتسم لها أو تتحدث إليها بلطف من أجلها أو تقول كلمة حق عندما تكون في أمس الحاجة إليها.
لم تخرج أميرة من محنتها بمرارة، بل كانت حكيمة. كانت تختار حلفاءها بعناية، وتثق في غرائزها، ولا تقلل أبدًا من أهمية الدعم الحقيقي الثابت.
ولكن هل سيترك هؤلاء المخربون فرصة للحياة لتستمر وتزدهر؟ إن يدهم العابثة تطال كل شئ.
لفد افسدت هذه الأيدي العابثة سكان مدينتها، وها هي الان تدمر مدينتها وتخفي معالمها، وتجعلها نهبا للفقر بعد ان أعلت من شأن سفلائها، وعملت على تهميش واسكات أي صوت عاقل للأبد.
كانت معدة أميرة تتقلب وهي تشق طريقها عبر الشوارع المليئة بالحطام. كانت المدينة النابضة بالحياة ذات يوم شبحًا لذاتها السابقة، مشوهة بالزلزال الأخير. كان الهواء، الكثيف بالدخان من الحرائق البعيدة، ذا طعم الرماد واليأس.
لماذا ينهار كل شئ حولنا، بينما هؤلاء المسؤولون عن الخراب يرتعون في حصاد ثروات هائلة مترعين بدماء شعوب ابيدت وتم محو حاضرها ومستقبلها بل .. وماضيها!
انتشرت الشائعات بين الناجين المتجمعين - همسات عن انهيار اقتصادي متعمد، وقوى غير مرئية تتلاعب بالفوضى لتحقيق مكاسبها الخاصة.
يبدو انهم أخيرا فطنوا لما يحاك لهم وما يحدث حولهم.. ولكن هل مازالوا يستمعون لجلاديهم ويبجلون مصاصي الدماء الذين يعتاشون من دمائهم؟
وجدت أميرة، وهي عادة براجماتية، نفسها تشكك في الروايات الرسمية، وتسلل شعور مخيف بالرعب إلى عظامها.
لم تعد العراق وحدها مسرحا لجرائمهم، ولكن كل المنطقة وكل بلدان العالم، حتى تلك التي كانت وحتى وقت قريب تقدم نفسها بأنها واحة التحضر وجنة الانسان على الأرض.
لقد انكشف القناع عن اكثر الوجوه همجية والكل في حالة من التوتر والرعب من حولنا تحول من فرط كثافته الى كائن يتنفس ويمكنك تلمسه.
الكل على أهبة الاستعداد لحرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر وتكاد تعصف بغير رجعة بكوكب الارض كله فلا يبقى مكان لمريدي الخراب وداعميه ولا لضحاياهم.
نهاية العالم او هرمجدون او اي مما يدفع اليه هؤلاء المختلون المختالون المنتفخون بثرواتهم ونفوذهم وتقنياتهم التي تمنحهم تفوقا مؤقتا ما يلبث ان يقضي عليهم.