الجمعة، 28 نوفمبر 2025

السردية الكبرى: كيف يُعيد الاستعمار الاستيطاني إنتاج نفسه عبر محو التاريخ وتشويه الحاضر


 

يشهد التاريخ الحديث نمطًا متكررًا ومفزعًا في بناء الكيانات السياسية يقوم على الاستعمار الاستيطاني (Settler Colonialism). هذا النمط يتجاوز مجرد الاستغلال الاقتصادي، ليصبح عملية إحلال شعب محل شعب، وإقامة وجود سياسي واجتماعي جديد على أنقاض الهياكل الحضارية والوجودية للسكان الأصليين.

أولاً: الإزاحة والإنكار: الأساس الملتوي لـ "الدولة المتحضرة"

تؤسس الكيانات الاستيطانية ثروتها ووجودها على تناقض أخلاقي صارخ. يتم تبرير هذا العنف التاريخي والإنكار الممنهج عبر آليات ثقافية وقانونية معقدة، يظهر ذلك بوضوح في النماذج التالية:

المنطقة

المستوطنون

السكان الأصليون

الآلية الاستيطانية وآليات الإنكار

الولايات المتحدة الأمريكية

الأوروبيون البيض

الأمم الأولى، الأفارقة المستعبدون

الإزاحة والإبادة: الإبادة الجماعية للسكان الأصليين (مسار الدموع). الإنكار: بناء الثروة على العمالة القسرية والعبودية، ثم فرض قوانين "جيم كرو" لفصل وإقصاء السود.

كندا

الأوروبيون (البريطانيون والفرنسيون)

الأمم الأولى والإنويت

المحو الثقافي: سياسة المدارس السكنية (Residential Schools) بهدف محو لغة وثقافة الأطفال الأصليين ودمجهم قسراً في الثقافة البيضاء، مما يمحو هويتهم.

أستراليا ونيوزيلندا

الأوروبيون (البريطانيون)

الأبوريجينال والماوري

الاستبعاد العنصري: فرض سياسات مثل "الأسترالي الأبيض"، واعتبار الأراضي "فارغة" (Terra Nullius) لتبرير مصادرتها.

فلسطين المحتلة

المهاجرون الصهاينة

الشعب الفلسطيني

الإحلال الديموغرافي: سياسة التهجير القسري (النكبة)، مصادرة الأراضي، ومحو القرى وتغيير الأسماء الجغرافية بهدف محو التاريخ الفلسطيني.

جنوب أفريقيا

البيض الأوروبيون (الأفريكانيون والبريطانيون)

الأفارقة الأصليون

الفصل العنصري (الأبارتايد): نظام قانوني شامل يهدف إلى الفصل العنصري التام بين البيض والسود، وحصر السود في مناطق معزولة ومفقرة (البانتوستانات) لحرمانهم من حقوق المواطنة والموارد.

 

هذه الأمثلة تؤكد أن هذا النمط هو استراتيجية عالمية لـ السيطرة على الأرض والذاكرة، حيث يتم تبرير الاستعلاء باسم "التحضر" مقابل "التخلف" المزعوم.

ثانياً: السلاح الثقافي: تصوير "الهوام" لتمهيد الطريق

في العصر الحديث، ينتقل دور الإزاحة من القوة العسكرية المباشرة إلى القوة الناعمة للسيطرة على الوعي. تستخدم المؤسسات الإعلامية والثقافية الغربية، وعلى رأسها هوليوود، سلاح التصوير النمطي (Stereotyping) للحفاظ على هذه السردية الاستعمارية.

يتجسد هذا التمهيد النفسي والفكري عبر ظاهرة الاستشراق الإعلامي التي تتبع الخطوات التالية:

1.   نزع الصفة الإنسانية: تصوير دول وحضارات عريقة، مثل مصر والمكسيك، ليس كأمم حديثة ونابضة بالحياة، بل كـ "صحارٍ جرداء" يسكنها بشر "أشبه بالهوام" أو "العاجزين".

2.   تجميد الزمن: محو التاريخ الحديث والإنجازات المعاصرة لتلك الشعوب، وإيقاف صورتها عند الأطلال القديمة أو مظاهر الفقر، لإيصال رسالة بأن الحاضر متخلف وعاجز.

3.   تبرير التدخل: يخلق هذا التصوير النمطي إجماعاً ضمنياً لدى الجمهور الغربي بأن هذه المناطق "عاجزة" أو "غير مستغلة بشكل جيد"، وبالتالي فهي بحاجة إلى سيطرة أو "إنقاذ" من قوى خارجية "متحضرة". هذا يفتح الباب أمام التقبل الشعبي للتدخلات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية القسرية، معيداً إنتاج فكرة التفوق الغربي القديمة.

إن المشهد المفزع للسياسات الأمريكية الأخيرة، كالتهديد بوقف الهجرة بشكل دائم من دول تُصنف كـ "دول عالم ثالث" (كما أشار الرئيس ترامب)، يعكس هذا الفصل الحاد بين "نحن" (المتحضرون والمستحقون) و"هم" (الخطر أو العبء)، وهو استمرار طبيعي للنمط الاستيطاني الذي يبرر الإقصاء باسم الأمن القومي أو الازدهار.

ثالثاً: الواجب الثقافي: دور المثقف في مكافحة المحو

في مواجهة هذا "النمط الاستعماري الأبيض" المستمر، تقع على عاتق المثقف، والكاتب، والفنان، مسؤولية تاريخية لمكافحة المحو الثقافي:

  • استعادة السردية الأصيلة: يجب على الكاتب والمنتج أن يتجاوز دور رد الفعل وأن يصبح صانعًا للسردية. يتطلب هذا إنتاج أعمال ثقافية (أدبية، سينمائية، فنية) تروي القصة من منظور محلي خالص، وتعرض الشخصية العربية كـ فاعل رئيسي في قصتها، لا كضحية أو عنصر ثانوي.
  • عرض الحاضر المعقد: التركيز على تصوير المدن الحديثة، والنسيج الاجتماعي المعقد، والشخصيات ثلاثية الأبعاد ذات الدوافع الإنسانية الشاملة. كما يجب إظهار كيف تتعايش الحضارة القديمة مع التكنولوجيا الحديثة دون تعارض، وكيف يتم استخدام الموروث لإنتاج أفكار مستقبلية.
  • التحدي بالجودة والوصول: لا يقتصر التحدي على المحتوى، بل يشمل الجودة الفنية والانتشار. يجب التركيز على إنتاجات بمعايير عالمية تصل إلى المهرجانات السينمائية ومنصات البث الدولية، لفرض السردية البديلة على الجمهور الغربي مباشرة.

إن هذا التحدي هو في الإصرار على رؤية العالم لا كما يُراد للمؤسسات الاستعمارية أن تراه، بل كما هو حقيقي: نسيج غني من الحضارات التي لا تزال تنبض بالحياة والإبداع، وتستحق السيادة والاحترام على حد سواء.

النموذج النيوزيلندي

نيوزيلندا تُعتبر بالفعل نموذجاً رائداً في العالم في مجال المصالحة والجهود المبذولة لمعالجة الإرث الاستعماري الاستيطاني. 🇳🇿

يمكن القول إن الجهود في نيوزيلندا (التي تهدف إلى دمج ثقافة الماوري الأصلية) تبدو أكثر "إثماراً" وتقدماً مقارنة بالنماذج الأخرى، وذلك لعدة أسباب بنيوية:

1. الإطار القانوني: معاهدة وايتانغي (The Treaty of Waitangi)

على عكس العديد من الدول الاستيطانية التي قامت على الإزاحة الكاملة، اعتمدت نيوزيلندا على معاهدة وايتانغي لعام 1840. رغم أن المعاهدة تعرضت لتفسيرات مختلفة واستغلال تاريخي، إلا أنها وفرت إطاراً قانونياً يعترف بوجود وحقوق الماوري كشركاء (Tino Rangatiratanga - حق الماوري في السيادة على مواردهم وثقافتهم).

  • تفعيل مبدأ الشراكة: في العقود الأخيرة، تم تفعيل محكمة وايتانغي (Waitangi Tribunal) لمعالجة الانتهاكات التاريخية للمعاهدة، مما أدى إلى تسويات ضخمة للأراضي والموارد، وهو اعتراف مادي بالظلم.

2. النجاح في إحياء اللغة والثقافة (Te Reo Māori)

مكافحة المحو الثقافي تبدأ باستعادة اللغة، وهنا يكمن النجاح الأبرز لنيوزيلندا:

  • لغة رسمية: تم الاعتراف بـ لغة الماوري (Te Reo Māori) كلغة رسمية للبلاد.
  • الإندماج التعليمي: إنشاء المدارس التي تُدرس بالكامل بلغة الماوري (Kura Kaupapa Māori) لضمان استمرار اللغة بين الأجيال الشابة.
  • الوجود الإعلامي: إدماج لغة الماوري بشكل واسع في الإعلام والخدمات العامة، حتى أصبحت تظهر بشكل طبيعي في نشرات الأخبار والبرلمان.

3. الاعتراف السياسي والثقافي

الجهود في نيوزيلندا لم تقتصر على التعويض المادي، بل شملت الاعتراف الرمزي والسياسي:

  • الاعتراف بأسماء الماوري: عودة الأسماء الأصلية للماوري للعديد من الأماكن والمواقع الجغرافية.
  • الحضور السياسي: للماوري حضور قوي في البرلمان، وهناك أحزاب ومقاعد مخصصة تضمن تمثيلهم.

⚖️ هل نيوزيلندا الوحيدة؟

صحيح أن نيوزيلندا قد تكون الأكثر تقدماً في جهود المصالحة، لكن هناك حركات مهمة في دول أخرى تسعى لذات الهدف:

  • كندا: تشهد جهود مصالحة مستمرة، خاصة بعد الكشف عن فظائع المدارس السكنية، وتم إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة التي أصدرت توصيات واسعة النطاق لم يتم تطبيقها بالكامل بعد، لكنها تمثل تحولاً في الخطاب الرسمي.
  • أستراليا: تعمل على الاعتراف الدستوري بالشعوب الأصلية، ولكنها تواجه مقاومة أشد في تحقيق تسويات واسعة للأراضي.

في الختام، يُظهر نجاح نيوزيلندا أن مكافحة السردية الاستعمارية لا تتطلب فقط نقد السردية الثقافية الغربية (هوليوود)، بل تتطلب إجراءات بنيوية داخلية تبدأ بالإطار القانوني وتنتهي بضمان استدامة لغة وثقافة الشعوب الأصلية. إنه الجهد الذي يثبت أن البناء الحضاري يمكن أن يتم عبر الشراكة والاعتراف بدلاً من الإزاحة والمحو.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق