لو قمنا بتجربة "تعتيم" بصرية على أسماء الآلهة ورموز الكتب المقدسة، وراقبنا سلوك الجماعات المتشددة حول العالم، لوجدنا أنفسنا أمام "نمط ظاهري" (Phenotype) متطابق بشكل يثير الريبة.
فمن أحياء "مئة شعاريم" في القدس، إلى معاقل "طالبان"، ومجتمعات "الأميش" المسيحية، وصولاً إلى متطرفي "الهندوتفا"؛ يرتدي الجميع نفس الأقنعة النفسية، ويمارسون ذات الانغلاق، ويحولون جسد المرأة إلى ساحة المعركة الأولى.
بصفتي متخصصة في العلوم المخبرية، اعتدتُ البحث عن الأنماط المتكررة لتعريف العوامل الممرضة.
وعندما ننظر إلى "التشدد" كظاهرة عابرة للأديان، نكتشف أنه ليس مجرد إيمان روحي، بل هو "آلية دفاعية" وبنية إدراكية يمكن تشريحها مخبرياً وسياسياً.
الدماغ الأصولي: المقايضة النفسية بالأمان
لا يختار الإنسان التشدد عبثاً، بل هو "مقايضة" دماغية للهروب من قلق الوجود. يعاني العقل المتشدد مما نسميه "التصلب المعرفي" (Cognitive Rigidity)؛ حيث تسيطر "اللوزة الدماغية" (مركز الخوف) على المشهد، مُعطلةً دور "القشرة الجبهية" المسؤولة عن التفكير النقدي.
يقدم التشدد "حقنة مهدئة" عبر تبسيط العالم المعقد إلى ثنائية (حق مطلق) و(باطل مطلق).
هذا "الحسم المعرفي" يريح الدماغ من عناء الاحتمالات، ويجعل من الزي الموحد (الأسود الطاغي، اللحى، القبعات الخاصة) "غشاءً خلوياً" يحمي الفرد من "التلوث الثقافي" الخارجي، تماماً كما يحمي الغشاء الخلية من وسطٍ معادٍ.
هل هو "داء نفسي"؟
بعض الدراسات في علم النفس العصبي (Neuropsychology) بحثت في "الأسس البيولوجية للتطرف"، ووجدت خصائص مشتركة :
|
السمة النفسية |
التفسير السلوكي |
|
ارتفاع حساسية الاشمئزاز (Disgust Sensitivity) |
المتشددون لديهم رد فعل بيولوجي قوي تجاه "الغريب" أو "المختلف"، ويرونه "لوثاً" بيولوجياً أو روحياً. |
|
الحاجة إلى الحسم (Need for Closure) |
عدم القدرة على تحمل الشك؛ الدماغ يطلب إجابة فورية وقاطعة ليهدأ القلق، والدين المتشدد يقدم هذه الإجابات الجاهزة. |
|
ضعف المرونة الإدراكية |
صعوبة في تغيير المهام أو تقبل تغيير المعطيات، مما يؤدي للتمسك الحرفي بالنصوص القديمة. |
بيئة الاستزراع والسموم
في المختبر، نحن نعلم أن "العفن" (Mold) كائن انتهازي لا ينمو إلا في ظروف محددة: رطوبة عالية، ظلام، وغياب للتهوية.
هكذا هي الأصولية؛ هي "عفن فكري" يستلزم "وسطاً زرعياً" مكوناً من الفقر والجهل والقمع.
بمجرد استقرار هذا العفن، يبدأ بممارسة "الإقصاء التنافسي"؛ فيفرز سموماً فكرية (تكفير، تخوين، تحريم) تقتل التنوع في المجتمع، وتجعل البيئة "حامضية" لا تتحمل وجود الفنون أو التعددية.
وبدلاً من أن يكون الدين وسيلة للارتقاء، يتحول إلى أداة لتعطيل نمو المثقفين والمبدعين لضمان انفراد العفن بالوسط تماماً.
جسد المرأة: المعمل الوراثي للجماعة
تتطابق الأصوليات في هوسها بجسد المرأة لأنها في نظرهم ليست فرداً، بل "حاضنة بيولوجية" للهوية و"معمل وراثي" يضمن استمرار أبواغ الجماعة.
السيطرة على لباس المرأة وحركتها هي سيطرة على "خطوط النقل" الثقافي، وهي "ترمومتر" يقيس من خلاله المتشدد مدى نقائه وتفوقه الأخلاقي الموهوم على الآخرين.
التآزر الجرثومي وفناء الدولة
تصل البشاعة إلى ذروتها في بلدان مثل (لبنان، سوريا، والعراق)؛ حيث يلتقي أكثر من مذهب متصلب في بيئة واحدة.
هنا ننتقل من "النمو الفردي" إلى "التآزر الجرثومي" (Microbial Synergism)؛ حيث يتعاون حطام الأصوليات المتصارعة مع "النظام الفاسد" و"المستعمر" لتسريع فناء الدولة:
- النظام الفاسد: يلعب دور "فني المختبر" الذي يغذي العفن ليستخدمه كـ "بعبع" يخيف به الشعب والمجتمع الدولي، مبرراً بقاءه كضرورة لمنع الحرب الأهلية.
- المستعمر والإمبريالية: يوفرون "السماد" والتمويل لهذه الجماعات لتفتيت النسيج الوطني، وتحويل الصراع من صراع على "السيادة والموارد" إلى صراع "هويات وعقائد".
- الانتحار البيولوجي: عندما تنهار الدولة، تبدأ هذه الجماعات بقضم ما تبقى من "جثتها"، فتدمر المؤسسات الرسمية والتعليم، مما يدفع "الخلايا الحية" (العقول والكفاءات) للهجرة، تاركين الوطن لقمة سائغة للعفن والمصالح الخارجية.
كيف استخدمت القوى الإمبريالية الجماعات الأصولية لضرب الحركات التحررية واليسارية والقومية.
الآلية: بما أن الأصولي يرى "اليساري" أو "الليبرالي" عدواً عقائدياً (بسبب كسر التقاليد أو العلمانية)، فإن الدول الإمبريالية دعمت هذه الجماعات لإضعاف الحركات التي كانت تطالب بتأميم الموارد أو الاستقلال الاقتصادي.
المثال الشهير: دعم "المجاهدين" في أفغانستان لمواجهة الاتحاد السوفيتي، حيث تم استغلال "الولاء للجماعة" و"الرغبة في الاستشهاد" لخدمة أجندة الحرب الباردة.
استراتيجية "البعبع" أو "الشرعية بالخوف" (The Bogeyman)
هنا تستفيد الديكتاتوريات المحلية من وجود المتشددين لترسيخ حكمها.
الآلية: النظام الديكتاتوري يغذي (أو يغض الطرف عن) نمو الجماعات المتشددة ليضع المجتمع والغرب أمام خيارين أحلاهما مر: "إما استبدادي (الذي يحمي المدنية والاستقرار) أو هؤلاء المتطرفون (الذين سيعيدونكم للعصور الوسطى)".
النتيجة: يتم استخدام المتشددين كـ "فزاعة" لإسكات الأصوات الديمقراطية، وتبرير القوانين القمعية وحالات الطوارئ تحت شعار "محاربة الإرهاب".
استراتيجية "كبش المحرقة" (The Scapegoat)
عندما تنتهي صلاحية هذه الجماعات أو عندما يشتد الضغط الدولي على النظام، يتم التضحية بها.
الآلية: لأن هذه الجماعات تنغلق على نفسها وتستخدم خطاباً صدامياً، يسهل جداً "شيطنتها" جماهيرياً وتحميلها مسؤولية كل إخفاقات الدولة (الاقتصادية والاجتماعية).
التوظيف السياسي: يتم تصويرهم كسبب وحيد للتخلف، مما يصرف الأنظار عن الفساد الهيكلي في السلطة أو النهب الإمبريالي للموارد.
الخاتمة: هل من مضاد حيوي؟
إن مواجهة هذا التحلل لا تكون بمجرد مسح العفن عن السطح أو نقاش النصوص، بل بتغيير "الوسط الزرعي" جذرياً.
العلاج هو "تهوية" المجتمعات بشمس العدالة الاجتماعية، وتجفيف منابع الجهل، وإعادة بناء وسط أساسه المواطنة لا الطائفة، والعلم لا الخرافة.
عندما نمتلك السيادة على عقولنا وأرضنا وغذائنا، سيموت هذا العفن تلقائياً؛ فهو في النهاية لا يزدهر إلا في غياب الحياة الحقيقية، وفي صمت القبور التي يحاولون تحويل أوطاننا إليها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق